الموسيقى العربية عبر التاريخ
لقد حفل تاريخ الموسيقى العربية بأسماء لامعة كثيرة غير التي ذكرناها في التعريف بالموسيقى العربية . وجميعها
لم يقتصرعلى الدراسة النظرية والفلسفية فحسب، بل لقد درس هؤلاء ماهية الموسيقى وماهية النغم المطلق والإيقاع
والأوتار والأوزان. كما نجد في كتاباتهم ومؤلفاتهم عناية ودقة في وصف الآلات الموسيقية واهتمامهم بالتجربة
والاختبار، ونجد أيضاً تراجم لحياة الموسيقيين والنغنين وسيرهم .
و من الحقائق الثابتة أن التأمل النظري في الموسيقى وفي أصول طبيعة الصوت قد قادهم إلى القيام بأعمال تجريبية
كثيرة أرشدتهم إلى بعض الأخطاء في النظريات الموسيقية التي وصلت إليهم من اليونان. ولا شك بأن عوامل مهمة
سارعت في تقدم الموسيقى عند العرب،أهمها تقدم العلوم الطبيعية عندهم -لاسيما ما يتعلق منها بالصوت- والتزامهم
المنهج التجريبي في أعمالهم ودراساتهم وخطتهم في البحث والنظر، والتثبت من كل نظرية قبل الأخذ بها.
هذا ما يؤكده فارمر في تقديمه لأعمال النظريين من" كتاب الموسيقى العربية" إن معظمهم كان من الرياضيين
وعلماء الطبيعة. حيث كانت الموسيقى عند البعض ملحقة بالعلوم الطبيعية لصلتها ببحوث الصوت، وعند البعض
الآخر ملحقة بالعلوم الرياضية لما فيها من نسب عددية. فمن الطبيعي بعد ذلك أن ينبغوا في هذه الصناعة تبعا
لنبوغهم في العلوم الطبيعية على حد سواء
والتقدم في الموسيقى يستتبع التقدم في صناعة الآلات الموسيقية، لاسيما لدى شعب عملي كالشعب العربي. فقد حقق
العرب منجزات كبيرة في علم الحيل وتقنية الآلات وجعلوا من صناعة الآلات الموسيقية فناً رفيعاً. فهناك عدة
وسائل في صناعتها، وهناك أدلة كثيرة على أن العرب كانوا مبتكرين في هذا المضمار: فزلزل (القرن الثامن
ميلادي) أدخل العود الشبوطي، وأضاف زرياب (القرن التاسع ) إلى أوتار العود الأربعة وتراً خامساً، ورتب هذه
الأوتار بحيث يعادل كل وتر ثلاثة أرباع ما فوقه، واخترع مضراب العود من قوادم النسر بعدأن كان من مرهم
الخشب. وفي أواخر القرن التاسع الميلادي وضع أبناء موسى بن شاكرأسس وقواعد الموسيقى الميكانيكية
استعملوا البربخ الموسيقي لتوزيع الألحان.هذه الموسيقى التي لم تظهر بوادرها في أوروبا إلا في أواخر القرن
السادس عشرالميلادي. وفي القرن العاشر الميلادي ابتكر الفارابي الربابة وآلة تشبه القانون. وأما صفي الدين عبد
المؤمن الأرموي فقد اخترع القانون المربع المسمى نزهة وآلة أخرى تسمى"المغنى".
وفي مهرجان العالم الإسلامي الذي عقد في لندن عام 1977، تم عرض مجموعة مهمة من المخطوطات العربية
التي تبحث في النظريات الموسيقية، كما عرضت السيدة جين جينكز وهي خبيرة في علم الموسيقى أكثر من مائتي
آلة موسيقية استعملها العرب. ولم تقتصر إدارةمهرجان العالم الإسلامي على مجرد عرض الآلات الموسيقية، بل
صاحبتها أيضاً عروض سمعية وبصرية. ومما لفت الأنظار هو ذلك التنوع الواسع البديع في الآلات الموسيقية،
وتلك الرسوم والنقوش والزخارف والتصاميم الفلسفية التي حليت بها سطوح تلك الآلات، مما يبرزمدى المهارة
اليدوية والبراعة الفنية التي كان يتمتع بها صانعوا الآلات الموسيقية في مختلف أقطار العالم العربي والإسلامي
هذا هو مفهوم الموسيقى في العالم العربي، وهذا نتاجهم الفني في هذا المضمار. لقد أبدع المفكرون والعلماء العرب
في علم الموسيقى ووصفوا له القواعد والأصول وسموا به سمو النفس الرفيعة المتعالية، واحترموا المجيدين فيه
وأعلوا من شأنهم، كيف لا وان الموسيقى مرآة صادقة تعكس الوجه الحضاري لأي أمة من الأمم ونصيبها من
الرقي أو التخلف، ولايمكن أن تقوم نهضة موسيقية إلا في أمة ذات قيمة حضارية. لقد كان للموسيقى مكانتها في
الفكر العربي في كل العصورحيث تناول الكُتّاب والمؤرخون والفلاسفة والعلماء والفقهاء البحوث الموسيقية في
شتى صورها وأنواعها،وتركوا لنا مجموعة مهمة من المخطوطات ما زال معظمها رهن المخبس يتطلع إلى النور
دون ان تتاح له فرصة الظهور، وإن الكثير منها لم يتناوله الشرح والبحث والتحقيق .
إن دراسة المخطوطات الموسيقية تتطلب دراية خاصة وثقافة واسعة تتصل بالتاريخ واللغة والموسيقى والفيزياء ،
حتى يمكن تدارك أخطاء النساخ ودراسة النصوص دراسة علمية .
سوف نستعرض تطور تلك الموسيقى وآلاتها في القرون الوسطى منذ العصر الجاهلي وحتى القرن العشرين