نشأة الموسيقى العربية وتطورها
عصر ما قبل التاريخ
تقع شبه الجزيرة العربية ما بين مصر والعراق، وقد كانت مركزا تجاريا في العالم القديم واساسا للحضارة منذ ثلاثة
آلاف عام قبل الميلاد وقد كشفت الآثار عن وجود ممالك عربية قديمة في جنوب شبه الجزيرة العربية ذات
مدنيات خاصة وحضارات عريقة.يقول الدكتور فريتس هومل Fritz Hommel)]: "لقد عثرنا في بلاد العرب
الجنوبية على آثار مزدهرة في زمن قديم جدا، ويسرت الأبحاث بعد ذلك لهذا العالم أن يحدد قائلا: "لابد أن مدينة
بلاد العرب الجنوبية بآلهتها ومحارق بخورها ونقوشهاوقلاعها وحصونها كانت مزدهرة في بداية الألف السنة
الأولى قبل الميلاد. إلا أن أصل العرب ومدى علاقتهم بالشعوب السامية الأخرى لم يزل حتى الآن موضع جدل بين
علماء الأجناس".
ولا تشهد الآثار وحدها على عظمة هذه المدنيات، بل النقوش البابلية والآشورية والمسمارية،والمؤلفون القدامى
أيضا، إذ يعترفون بالدور الذي قامت به بلاد العرب في توجيه الثقافات الآشورية والبابلية. ومع ذلك لم يصل إلينا
شيء عن موسيقى العرب الأقدمين. ولكن تم الاهتداء إلى أول أثر للموسيقى العربية في القرن السابع قبل الميلاد
على أحد نقوش بانيبال.ذكر أن الأسر ىالعرب كانوا يقضون وقتهم في الغناء والموسيقى، وهم يشتغلون لسادتهم
الآشوريين، مما أطرب الآشوريين لدرجة جعلتهم يسألونهم المزيد.
ويعترف العالم الموسيقي بيتر كروسلي هولاند(Crossely Holland Petter) أنه قامت حضارة عربية كبيرة
خلال آلاف السنة قبل الميلاد، وقد استطاعت هذه الحضارة النامية أن تؤثر تأثيراً مباشرأً على الشعوب المجاورة
وأهمها سكان بلاد ما بين النهرين، والاغريق والعبريين .ومما يدل على هذا التأثير في رأي كروسلي ، هو أن
بعض أسماء الآلات الموسيقية العربية يستخدم في هذه البلاد بصورة تثبت سابق صلتها بالاسم العربي. ومن ذلك
كلمة (طبلة) بالعربية وهو اسم الآلة الإيقاعية المعروفة لدينا والتي تستخدم على نطاق شعبي شاسع فس بلادنا .
ومما يدل على عراقة أصلها أن اسم هذه الآلة باللغة العبرية تيبيلا (Tibela ) وبلغة أهل بابل وأشور تبولا
(Tabula) ، وكذلك كلمة تف بالآرامية والعبرية تعود إلى كلمة دف بالعربية . ومن الواضح أن المزمار العبري
المسمى زمر هو الزمر العربي. وهكذا حصل الاشتقاق لكل هذه المسميات من الاسم العربي الأصيل.
وتدل جميع هذه الظواهر على ان الموسيقي العربية القديمة استخدمت في الأغراض ذاتها التي كانت تستخدم فيها
موسيقى الطقوس الدينية. ومن هذه الأغراض التغني بالشعر والاشتغال بالسحر. ولا شك أن الدراسات الدقيقة للآثار
القديمة في بلاد ما بين النهرين قد تمخضت عنها نتائج مهمة تعكس الصورة التي كانت عليها الموسيقى العربية في
عصر ما قبل التاريخ. لكن تلك الحضارة العربية القديمة اندثرت مع التدهورالسياسي والاقتصادي الذي أصاب
الممالك العربية وصارت الهجرات امراً مالوفاً يومياً، فهُجرت المدن العظمى وتُركت للخراب.
مع ذلك لم يصب العقم بلاد العرب بل سخر الله لها الدين الإسلامي لتزدهر من جديد وتعيد مجدها السابق ولكن
بصورة أفضل ومفهوم أوضح.
الموسيقى العربية في العصر الجاهلي (من القرن الأول إلى القرن السادس الميلادي)
- عرف هذا العصر بالعصر الجاهلي لأن عرب الجاهلية كانوا يجهلون تعاليم الإسلام. وفي الحقيقة لم تكن أيام
جهل تام، بل بداية لحضارة ساعدت على الحفاظ على التراث العربي القديم. ويتفق عامة المؤرخين على أن الرعيل
الأول من العرب المهاجرين من بلاد العرب الجنوبية بدأ يتحرك شمالا حوالي القرن الثاني الميلادي. لذا بدأت
الموسيقى العربية تزدهر وتنمو في مناطق ثلاث هي سوريا والعراق وغرب الجزيرة العربية. وكانت سوريا في
لك الوقت تحتفظ بالكثير من طابع الثقافة السامية كما كانت غسان مركزاً له أهمية في الموسيقى العربية أما
العراق فكان غارقا في خضم الثقافة السامية. وفي غرب الجزيرة العربية برز النشاط الموسيقي في مركزين هامَّين
هما الحجاز ومكة. وكان سوق عكاز ميدانا رحبا يتبارى فيه الموسيقيون والمغنون والشعراء ويقدمون أروع ما
تجود به قرائحهم. أما مكة فقد كانت مركزا عقائديا تقام فيها الشعائر الدينية وكان الحجاج يفدون إليها وهم يغنون
غناء فطريا سمي بالتلبية والتهليل.
ولم يستخدم العرب الموسيقى في عباداتهم كما فعل الغرب،خصوصا انهم قبل الإسلام لم يكن لديهم دين واحد
يجمعهم. لذا فان الموسيقى الدينية قبل الإسلام تكاد تكون مهملة. أما الموسيقى الدنيوية خلال تلك الفترة فقد كانت
أكثر أهمية. ولقد لعبت المرأة دورا أساسيا في انتشار الموسيقى العربية قبل الإسلام، اذ كانت نساء القبائل يشتركن
في موسيقى الأعياد العائلية أو القبلية بآلاتهن، وقد استمرت تلك العادات حتى عصر محمد الذي احتفل بزواجه من
خديجة بالأفراح والأعياد والموسيقى والرقص.
وكانت هند بنت عتبة على رأس بعض النسوة اللواتي كن يخففن متاعب السفر عن قريش في أحُد (سنة 625
ميلادية) بالأغاني الحربية ورثاء قتلى بدر بضرب الدفوف. وعندما حمى وطيس المعركة كن لا يزلن يغنين
ويفرحن1 . وتجد إلى جانب هؤلاء السيدات طبقة معروفة بالقينات أو القيان تواجدن في كل البقاع التي عاش فيها
العربي، كشبه الجزيرة العربية وسوريا والعراق. وقد ظهرت القيان في قصور الملوك وفي بيوت الأثرياء ورؤساء
القبائل. كما ظهرن في الحانات وفي مضارب الخيام القبلية.وكان اقتناؤهن مدعاة لفخر الإعرابي حيثما وجد، وكانت
أهم صناعتهن العزف والغناء. وقبيل فجر الإسلام كان عبد الله بن جدعان أحد أشراف قريش يملك قينيتين تسميان
"جرادتي عاد".ما بشأن الموسيقى قبل الإسلام، فيقول
إن الموسيقى قبل الإسلام لم تكن أكثر من ترنم ساذج ينوعه ويجمله المغني أو المغنية تبعا لذوقه أو انفعاله أو ما"
يريده من تأثيروميزة المغنى في جمال صوته وخفته وذبذبته والشعور الذي يجعل الصوت مستمرا أو متموجا وكان
كل مغن يغني في نغمة واحدة أو مقام، اذ لم يعرفوا تأليف اللحون المتفرقة كما نعرفها نحن والنوع الوحيد في
التأليف الموجود عندهم هو تلك الأنغام التي تبعثها آلات القرع المختلفة من أمثال الطبل والدف والقضيب.."
من أهم الآلات الموسيقية التي انتشرت في العصر الجاهلي آلات ضبط الوزن ، وأكثرها انتشارا الصنوج
والجلاجل. وهناك أيضا آلات الزمر. وكانت كلمة مزمار تطلق على اية آلة قصبية هوائية بشكل عام، وان كانت
تطلق على الناي تحديدا.
ويذكر الفارابي في" كتاب الموسيقى الكبير" الطنبور حيث يصرح بأن الطنبور البغدادي المشهور في عصره كان
ذا دساتين توافق دساتين الجاهلية. ويبدو أن العود كان شائعا جدا وكان يعرف بأسماء مختلفة مثل المزهر والكران
والبربط والموتر.
من اشهر موسيقي العصر الجاهلي عدي بن ربيعه (495 ميلادية) شاعر بني تغلب المشهور والذي لقب بالمهلهل
بسبب صوته وكان علقمة بن عبدة (القرن السادس الميلادي) من الشعراء الذين غنوا المعلقات.
وينتسب الأعشى ميمون بن قيس (حوالي 629 ميلادية) لليمامة، وكان يطوف بجميع أرجاء الجزيرة وبيده الصنج
يغني الأشعار الرائعة التي وهبته مكانة بين شعراء المعلقات. وكان يسمى صنّاجة العرب. ومن المؤكد أن النصر
بن الحارث 624 ميلادية سليل قصيّ المشهور، كان من شعراء الجاهلية الموسيقيين . لقد تعلم النصر بن حارث،
في بلاط الحيرة العربي، العزف على الآلة المسماة بالعود الذي يبدو أنه حل محل المزهلر القديم . كما تعلم الغناء
الأكثر فنأً الذي حل محل النصب الذي اشتهر في الجاهلية ، وأدخل هذه الأشياء الجديدة إلى مكة.
لابد لنا أيضا من ذكر بعض المغنيات، وقد اشتهرت منهن في عصر الأساطير مغنيات على الأقل . فجرادتا بني
عاد المشهورتان كانتا تسميان تعاد وتماد وكانت هزيلة و عفيرة مغنيتي بني جديس، القبيلة التي أفنت بني طسم.
ومن المحتمل أن أم حاتم الطائي الشاعر المشهور كانت موسيقية. وكانت الخنساء شاعرة الرثاء المشهورة تغني
مراثيها بمصاحبة الموسيقى، وكانت هند بنت عتبة التي تمثل السيدة العربية في الجاهلية شاعرة وموسيقية.
1 - Caussin de Perceval- Essai sur l'histoire des Arabes avant l'islam - Paris 1847- 1848
2- Perron A . Femmes arabes avant et après l'Islam - Paris 1858