إن مقدمة المخطوطات التي تركها لنا العلماء العرب تنضح بفن التقديم وصدق التعبير والأمثلة على ذلك كثيرة
اخترنا منها مقدمة كتاب الجزري "العلم والعمل النافع في صناعة الحيل"
يقول الجزري:"الحمد لله المبدع صنعه في السمائيات، المودع أسرار حكمه في الأرضيات فهي نسخة من عالم
ملكوته، ودليل قاطع على جبروته، أحمده على ما علم ، واستزيده من فواضل النعم وهي مطلوبات الحكم ، حمدا
يماثل بعض إحسانه، وجزيل امتنانه، والصلوة على سيدنا محمد أشرف نوع الانسان وعلى آله والتابعين له
بإحسان. وبعد فإني تصفحت من كتب المتقدمين وأعمال المتأخرين أسباب الحيل في الحركات المشبهة بالروحانية
وآلات الماء وآلات الماء المتخذة للساعات المستوية والزمانية ونقل الأجسام بالأجسام عن المقامات الطبيعية وتأملت
في الخلاء والملاء لوازم مقالات برهانية وباشرت علاج هذه الصناعة برهة من الزمان وترقيت في عملها عن رتبة
الخبر إلى العيان فأخذت فيها أخذ بعض من سلف وخلف واحتذيت حذو من عمل ما عرف ولما لهجت بمزاولة هذا
المعنى الدقيق ولحجت بمحاولة مجازه والتحقيق رمقتني أعين الظن بالتبريز في هذا الفن العزيز وامتدت إليّ أبواع
ذوي الهمم الرفيعة لاستطلاع أنواع الحكم البديعة فعناني من عناية ملوك زماني وفلاسفة أواني ما أثمر به غرس
اعتدادي وأقمر له ليل اجتهادي فاستنهضت ما قعد من همتي وأيقظت ما رقد من قريحتي واستغرقت الجهد والجد
واستنفذت الوسع والجد وكنت وجدت فريقا ممن خلا من العلماء وتقدم من الحكماء وضعوا أشكالاً وذكروا أعمالا
لم يباشروا لجملتها تحقيقا ولا سلكوا إلى تصحيح جمعها طريقا وكل علم صناعي لا يتحقق بالعمل فهو مردد بين
الصحة والخلل. فجمعت فصولا مما فرقوه وفرعت أصولا مما حققوه واستنبطت فنونا لطيفة المدارج خفيفة المداخل
والمخارج، ولما وجدت في ذلك من المشقة ما بعَّد عليّ الشقة كرهت أن يذهب إجتهادي ادراج الرياح وينتسخ أثر
ما عملته انتساخ الليل بالصباح سولت لي نفسي أن أضع في ذلك تذكاراً لمن عنيتُ ببشر أديمه ورغبت في تعليمه .
ثم إني عدلت عما به هممت وتركت ما عليه عزمت حذارا إنكار عايب صايب بنظر ثاقب. وعند اتصالي بخدمة
الملك الصالخ أبي الفتح محمود بن محمد بن قرا أرسلان ملك ديار بكر من آل أرتق أبقاه الله وذلك على أثر خدمتي
لأبيه وأخيه مدة خمس وعشرين سنة أولها سنة 570 إلى أن أفضى الأمر إليه وبينما أنا ذات يوم لديه وقد عرضت
شيئاً مما صنعته عليه وهو ينظر إليَّ ثم ينظر ويفكر فيما كنت هممت به ولا أشعر فرمى حيث كنت رميت وكشف
بإصابته عما خفيت فقال لقد صنعت أشكالاً عديمة المثل وأخرجتها من القوة إلى الفعل فلا تضع ما اتعبت فيه
وشيدت مبانيه ، واُحب أن تُصنف كتابا ينظم وصف ما استبددت بتمثيله وانفردت برصف تصويره وتشكيله. فبذلت
من قوتي حسب الاستطاعة إذ لم أجد محيدا عن الطاعة وألفت هذا الكتاب يشتمل على بعض خروق رقعتها واصول
فرعتها وأشكال اخترعتها ولم أعلم إني سُبقتُ إليها واثقا بكرم من يقف عليه من أهل العلم ، وقد علم اولو العدل في
الحكم أن كلاً ميسر لماله خلق ومنفق مما رزق ولا تالوا نسمة نفعها ولا تكلف نفس إلا وسعها. وجمعت ذلك في
مقدمة تتضمن خمسين شكلاً وقسمتها إلى أنواع ستة وبسطت القول في الصفة والكيفية واستعملت فيما
وضعته أسماء أعجمية أتى بها السابق من القوم واستمر عليها اللاحق إلى اليوم وألفاظا أخر يقتضيها الزمان إذ كان
لأهل كل عصر لسان ولكل طايفة من أهل العلم اصطلاخات بينهم معروفة واتفاقات عندهم مألوفة . وصورت لكل
شكل مثالاً وأشرت إليه بالحروف استدلالاً وجعلت عليه من تلك الحروف أبدالاً وذلك لاشراق دولة مولانا الامام
الناصر لدين الله أبي العباس أحمد أمير المؤمنين ثبت الله رواسخ قواعد دولته الباهرة بالسمو الباسق وضاعف
الاسلام بشوامخ رواعد نصرته القاهرة بالعلو الشاهق حتى تطبق كلمة التوحيد أقطار الربع المعمور من كرة
الأرض وتلفق عظمة التمهيد أطوار الوسع المغمور من طولها والعرض ويتم نعمته عليه ويهديه سراطا مستقيما.
النوع الأول : في عمل بناكيم وقيل فناكين يعرف منها مضي ساعات مستوية وزمانية وهو عشرة أشكال
النوع الثاني: في عمل أواني وصور تليق بمجالس الشراب وهو عشرة أشكال
النوع الثالث : في عمل أباريق وطساس للفصد والوضؤ وهو عشرة اشكال
النوع الرابع: في عمل فوارات في برك تتبدل وآلات الزمر الدايم وهو عشرة اشكال
النوع الخامس : في عمل آلات ترفع الماء من غمرة وبير ليست بعميقة ونهر جار وهو خمسة اشكال النوع
السادس: في عمل أشكال مختلفة غير متشابهة وهو خمسة اشكال.
أنتهت مقدمة الجزري ونترك للقارئ الكريم تحليل المضمون