الإسلام والموسيقى
بعد ظهور الإسلام انتقلت الموسيقى العربية إلى مرحلة جديدة تختلف عن سابقتها كل الاختلاف. واهم المدن العربية
التي انطلقت منها الحضارة الإسلامية الأولى هي مكة حيث ولد الرسول عليه الصلاة والسلام والحجاز حيث
تفجرت ينابيع الدين الحنيف ناشرة مبادئ الخير والأخلاق والحب والسلام في ربوع العالم أجمع.
إن من أعظم المسائل المحيرة في الإسلام موقفه من الموسيقى وقد تناقش الفقهاء والعلماء قرونا حول نظرة الإسلام
إلى الموسيقى، فمنهم من دلل على ان الإسلام حرمها ومنهم من أثبت بالحجة والقول والبرهان أن الإسلام شرعها
وحلل ممارستها. ولا يسمح المقام هنا بذكر الأسامي والحجج التي اعتمد عليها كل فريق لإثبات الرأي الذي ذهب
إليه. لكن من المسلم به هو عدم وجود أية كلمة كراهية مباشرة للموسيقى في القرآن الكريم. لذلك فان معظم الحجج
والبراهين في تحليل الموسيقى أو تحريمها استند إلى الحديث. وتطلق كلمة الحديث على أقوال محمد عليه السلام
وأخباره التي حازت قوة القانون وبعض نفوذ الوحي واعتبرت بالدرجة الثانية بعد القرآن. ويميز الحديث المقبول
والمعمول به، من الحديث الذي به بعض الصدق ومن الحديث المنكر، باحكام استنبطها الفقهاء والمسلمون ولا يمكن
أن نتناولها هنا. ويكفينا أن نقول انهم لا يمكن أن يقبلوا حديثا يعارض القرآن. وهناك كثير من الأحاديث التي تتعلق
بمشكلة السماع، فلننظر أولا في الأحاديث التي تحرمه.
روت عائشة زوجة النبي محمد عليه السلام قالت :"ان الله حرم القينة وبيعها وثمنها وتعليمها". ويقول الغزالي: "ان
هذا الحديث يشير إلى قيان الحانات وحدهن". وروى جابر بن عبد الله: أن النبي قال : "كان ابليس أول من ناح
وأول من تغنى". وينسبون أيضا إلى محمد عليه السلام أنه قال : "الغناء ينبت في القلب النفاق كما ينبت الماء
البقل". على حين ينسب الآخرون هذا القول لابن مسعود.
ويروي صحيح الترمزي المتوفى عام 892 م أن النبي عليه السلام لعن الغناء والمغنين،وان كان يُشك في صحة
هذا الحديث. ويقال في حديث آخر أن القيان والمعازف من علامات نهاية العالم. ويصرح بأن الآلات الموسيقية من
أكبر الوسائل التي يغوي بها الشيطان الرجال تأثيراً، فالآلة الموسيقية هي مؤذن الشيطان يدعو لعبادته. أما الأحاديث
التي تبيح الغناء فتعادل الأحاديث السابقة بالصحة وان لم تعادلها في الكثرة.فهناك راويان نسبا لمحمد عليه السلام
الأقوال التالية:
" ما بعث الله نبيا إلا حسن الصوت. والله أشد أذنا للرجل الحسن الصوت من صاحب القينة لقينته" وعن ابن مالك
المتوفى عام 715م " أن محمد عليه الصلاة والسلام كان يحدى له بالسفر" ويعترف الغزالي بأن الحداء لم يزل
وراء الجمال من عادة العرب في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وزمان الصحابة - رضي الله عنهم - وما
هو إلا شعائر تؤدى بأصوات طيبة وألحان موزونة.
وأما القيان اللواتي حرمهن حديث سابق فيبدو أنه يوجد دليل قوي قاطع على إباحة النبي لهن.روي عن عائشة
حديثان مهمان في هذا الصدد، يقول أولهما: أن أبا بكر رضي الله عنه دخل عليها ( على عائشة ) وعندها جاريتان
في أيام منى تدففان وتضربان والنبي عليه السلام متغشى بثوبه فأنهرهما أبو بكر فكشف النبي عن وجهه وقال :
دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد. يقول الثاني: كانت جارية تغني عندي (المتحدث عائشة)فاستأذن عمر فلما سمعته
الجارية هربت فدخل النبي عليه الصلاة والسلام يبتسم، فقال عمر : أضحك الله سنك يا رسول الله كأنه يسأله عن
سبب ضحكه فقال : كانت جارية تغني فلما سمعت خطواتك هربت. فقال عمر لن أرحل حتى أسمع ما سمع رسول
الله.فاستدعى الرسول الجارية فأخذت تغني وهو يسمعها1
وورد حديث على أن محمدا عليه الصلاة والسلام أباح الموسيقى الآلية فقد قال: أحيِّ الزواج واضرب الغربال. وقد
أحيا زواجه من خديجة بالموسيقى وكذلك زواج فاطمة،هذا وإننا لا نستطيع أن نعطي رأيا واحدا عن نظرية الإسلام
في الموسيقى. لكن الأمر الذي لاشك فيه أن رسول الله عليه الصلاة والسلام شغل بنشر الدعوة الإسلامية هو
وصحبه من الخلفاء الراشدين، لذا لم يتوفر ذلك الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي الذي لابد منه حتى يزدهر أي فن
من الفنون... والأمر الثاني هو أن الإسلام في أول ظهوره وجد الغناء بالصورة التي أوردناها قبل ذلك حيث
تمارسه القيان، وكان يؤدى في مجالس اللهو والشراب حيث العبث والضياع والمجون،لذا لم يكن من السهل على
الدين الجديد أن ينظر نظرة اطمئنان إلى الغناء العربي بالصورة الماجنة التي كانت عليها.وحتى الغناء الديني الذي
كان منتشرا بين عرب الجاهلية اعتبره الإسلام نوعا من الإلحاد وسبيلا للرجوع إلى عبادة الأوثان. إلا أن العربي
موسيقي بطبعه. فالأنغام الموسيقية تسري في دمائه وتمتزج بها امتزاجا أصيلا. لذا انتقلت الموسيقى خلال هذه
الفترة إلى مرحلة جديدة حيث تأثرت إلى حد كبير بالتعاليم الجديدة التي جاء بها الإسلام. وربما كان أداء الآذان،
للدعوة إلى الصلاة، بطريقة هي أقرب إلى الغناء منها إلى الإلقاء،هو مظهر بارز من مظاهر هذا الانتقال.
لا شك أن الإسلام أحدث تغييرا جذريا في طبيعة الغناء الذي كان يمارس طول العصر الجاهلي ومن ذلك تحريم
غناء القيان. وفي المدينة المنورة حدث اختلاط بين العرب وأسراهم من الفرس فتأثر هؤلاء من أولئك وبأت صناعة
الغناء تنتقل إلى الذكور من العرب أمثال طويس، أول من اشتهر من المغنين الذكور.لذا فان التأثير الفارسي في
موسيقانا العربية بدأ خلال هذه المرحلة.
أما بالنسبة للآلات الموسيقية التي استعملت في صدر الإسلام فإنها لم تختلف عن الآلات السابقة التي استعملت في
العصر الجاهلي.
1- Al-hujwiri Ali ibn Uthman - The Kashf al Mahjoub -The oldest Persian treatise
on Sufism- translated by R.A . Nichelson- London 1911