الموسيقى العربية في العصر العباسي (750 -1258 م)

حين قام بنو العباس على أنقاض بنو أمية بزغ عصر جديد للعرب ووضعت أسس لحياة فكرية مميزة في القرون

التالية وانتقل مركز النشاط الموسيقي من دمشق إلى بغداد. ودخلت الموسيقى مع سائر الفنون والآداب في عصرها

الذهبي خصوصا في عهد هارون الرشيد (768-809  م) الذي أصبح اسمه يقترن، في الفكر العربي والعالمي دون

استثناء، بالأمجاد العربية في الفنون والآداب والتي صورت أحيانا كالأساطير. وقد ورد ذكر هارون الرشيد مئات

المرات في قصص ألف ليلة وليلة التي كانت كلها حافلة بأعظم ما يصوره الإنسان من عظمة في الرقص والغناء.

ولا بد  أن مجموعة المواهب الموسيقية التي اجتمعت في بلاطه لقيت الملايين من الأموال المنفقة عليها. ومن أهم

الذين استفادوا : إبراهيم الموصلي، وابن جامع، وزلزل، وا سحق الموصلي وغيرهم. وكان ابن هارون الرشيد

المفضل المسمى أبا عيسى، موسيقيا مجيدا ونجده يشترك في الحفلات الموسيقية في البلاط مع أخيه أحمد.

 كذلك كان شغف معظم الخلفاء العباسيين عميقا بالفن والموسيقى، فقد كان الواثق (842-847 م) أول خليفة عباسي

يعتبرموسيقياً حقيقياً. ويشهد حماد بن اسحق الموصلي بأنه أعلم الخلفاء بهذا الفن. وأنه كان مغنيا بارعا وعازفا

ماهرا على العود. وقد لقي الفن من التشجيع والكرم في بلاطه ما يجعل المرء يظن أنه تحول إلى معهد للموسيقى

على رأسه اسحق الموصلي، بدلا من كونه مجلسا لأمير المؤمنين. وكان هارون ابن الخليفة موسيقياً موهوباً وعازفاً

لامعاً. رغب العباسيون في التفوق على مجد الساسانيين القدماء فبذخوا في سبيل العلم والفن.  فأسست في عهدهم

المكتبات وبنيت المعاهد والمستشفيات والمعامل.

 من الطبيعي أن يتقدم فن الموسيقى في هذه الظروف الملائمة، فظهر في هذا العهد أشهر المغنين الإسلام أمثال

اسحق الموصلي و زلزل و يحي المكي، كما ظهر أيضا أعلام عرب هم طليعة الفكر الموسيقي والإنساني ليس في  

في العالم الإسلامي فحسب وإنما  في العالم أجمع.

 ولعل كتابات الكندي في الموسيقى هي أول بحوث جادة في الفن في تاريخنا العربي، وإننا نلمس قيمة ما قدمه

الكندي للتراث الإنساني إذا تابعنا بإمعان دراساته وبحوثه وآرائه في الموسيقى والفلسفة والطب وعلوم الرياضيات

والفلك علاوة على آراء أخرى هامة في العقائد السياسية والاجتماعية. والجدير بالذكر أن الكندي في "رسالة في

خبر تأليف الألحان"استعمل الرموز والأحرف الأبجدية للتدوين، فكان أول تدوين موسيقي استعمله العرب.

 وكان بنو موسى وأسماؤهم:محمد (المتوفي عام 873 م) وأحمد والحسن أبناء موسى بن شاكر من  من أشهر علماء

عصرهم، اشتغلوا في بيت الحكمة (المدرسة التي أنشأها المأمون في بغداد) في عهد يحي بن أبي منصور (المتوفي

حوالي 831م). ونقرأ في الفهرست بأن العلوم استهوتهم نذكر منها علم الهندسة وعلم الحيل (الميكانيكا)،

والموسيقى والفلك. ولحسن الحظ بقي أحد كتب بني موسى الموسيقية، وهو مخطوط آلة الزمر.

   في هذا العصر برز أيضاً الفارابي، فقد كان حكيما وفيلسوفا وصاحب دراسات في الطب والرياضيات

واللغات، وذلك علاوة على مؤلفاته في الموسيقى. ويعترف المفكرون والمؤرخون في الغرب أن كتاب الفارابي

"كتاب الموسيقى الكبير" هو من أعظم المراجع الموسيقية التي أسهمت في قيام النهضة الموسيقية في أوروبا فيما

بعد.

 كما تألق في العصر العباسي نجم الرئيس ابن سينا الذي نبغ إلى حد العبقرية في الطب والفلسفة والموسيقى والفقه

واللغة والعلوم الرياضية والآداب وعلم النفس، وله من كتابه المشهور "الشفاء" جزء هام عن الموسيقى. وقد بحث

فيه موضوعا هاما قد يفيد إفادة تامة في البحوث الحالية عن مدى تقبل الألحان العربية للهارمونية الغربية.

من كل ما تقدم يتضح لنا أن الموسيقى العربية في العصر العباسي بلغت ذروة مجدها من ناحيتي الأداء الغنائي

وانتشار العلوم والبحوث والدراسات الموسيقية.

وفي كتاب "رسالة في الموسيقى" الذي وضعه ابن المنجم (المتوفى عام 912 م) تلميذ اسحق الموصلي. بحث قيِّم

عن السلم الموسيقي العربي الكلاسيكي الذي كان مستخدما حتى القرن الخامس عشر (لا مجال لذكره هنا لأن السلم

الموسيقي العربي وتطوره يتطلبان بحثاً خاصاً). وهو يشبه إلى حد كبير السلم الفيثاغوري الإغريقي باستثناء بعض

فروق طفيفة للغاية لا تكاد تذكر.

 استمرت بغداد حتى منتصف القرن التاسع ميلادي مركزا حيويا تنبعث منه إشعاعات النهضة الموسيقية العربية.

وكان الغناء هومظهر النشاط الوحيد في موسيقانا، وفي أوائل القرن العاشر ميلادي بدأت الموسيقى العربية تتأثر

باذواق دخيلة بعضها من الفرس والبعض الآخر من المغول والأتراك وغيرهم من الشعوب التي اتصلت عن طريق

الحرب أو التجارة بالشعوب العربية.

وكانت نتيجة هذا الاتصال ظهور سمة غريبة في موسيقانا لم تكن مألوفة من قبل، وهي الاهتمام البالغ بالموسيقى

الآلية وتفضيلها غالبا على الغناء العربي التقليدي. وكان القالب الموسيقي المعروف في ذاك الوقت هو نوع من

المتتابعات الغنائية  تسمى (النوبة)، وهي عبارة عن متتاليات تتكون من عدة أجزاء يسبق كل جزء منها افتتاحية

موسيقية خاصة. وقد أتاحت هذه الطريقة لعازفي الآلات فرصة الأداء الآلي المتتابع. وتمت بعد ذلك مرحلة هامة

هي بدء تقديم هذه المتتابعات بأداء موسيقي مرتجل تمخضت عنه التقاسيم الموسيقية التي ترتجل على آلاتنا العربية

والتي لا نزال نسمعها حتى اليوم في مصاحبة الموال.

 رغم انتشار العود في ذلك الموقت إلا أن بعض الآلات الموسيقية الأخرى بدأت تستعمل بكثرة. وأهمها القانون

الذي استخدم في سوريا كثيرا منذ القرن العاشر الميلادي.وخلال هذا القرن استخدمت أول آلة موسيقية ذات القوس 

وهي الرباب وكان القوس حينئذ يشبه القوس المستخدم في الحروب كما ذكره الفارابي في بحوثه.

 لقد استطاع العرب منذ القرن التاسع الميلادي أن يترجموا معظم البحوث التي كتبت عن الموسيقى الإغريقية إلى

اللغة العربية. من أهم هذه البحوث ما تعلق بالسلم الموسيقي اليوناني والنظريات الموسيقية بصورة عامة.. وقد

اقتبس العرب كثيرا من النظريات الموسيقية اليونانية حتى أن طريقة العزف على العود تغيرت بناء على ما أحدثه

هذا الاقتباس من تغيير جذري في الأداء.

 كما استطاع العرب في سنوات قلائل أن يتفوقوا على الإغريق أنفسهم بعد أن أضافوا من عبقريتهم قواعد واساليب 

جديدة  في العزف والتلحين والأداء، وقد اعترف الإغريق بذلك اعترافا صحيحا لا لبس فيه.

 إضافة إلى ذلك لقد  أدخلت الموسيقى العربية كمادة تعليمية في المدارس والجامعات. وتعترف الدوائر الموسيقية

الغربية أن العرب استطاعوا بين القرن التاسع والثالث عشر الميلادي أن يضعوا حوالي مائتي مصنف متفرع في

سائر الفنون.والعلوم الموسيقية، كما اعترفوا أن أربعة من هذه المصنفات ذات أهمية بالغة حتى أنها أثرت على

الموسيقى الغربية وهي:

1 - رسالة في تأليف الألحان للكندي (المتوفي عام 874 م). ويوجد هذا المخطوط حتى الآن في المتحف البريطاني

ويشتمل على أول بحث في نظرية الموسيقى العربية، وفيه طريقة خاصة للتدوين الموسيقي. ونلاحظ أن تلك

الطريقة في التدوين كما ابتكرها الكندي قبل أن يستطيع غي داريزو (Gui d'Arizo 990 - 1050) أن يبتكر

طريقته في التدوين الموسيقي في أوائل القرن الحادي عشر.

 2 - كتاب الموسيقى الكبير للفارابي (المتوفي عام 950 م) وهو أعظم الكتب الموسيقية التي كتبت على الإطلاق.

 3 - الجزء الخاص في كتاب الشفاء للرئيس ابن سينا (ا لمتوفى عام 1039 م)، وفيه جزء هام للغاية عن النظرية

الموسيقية العربية.

 4 - كتاب الأدوار لصفي الدين الارموي ( المتوفي عام 1294م). ويعترف كروسلي هولاند أن كل من كتب

النظريات الموسيقية بعد صفي الدين اعتمد اعتمادا كبيرا على " كتاب الأدوار" وجعله أساسا لبحوثه ودراساته.

 يتضح من كل ما تقدم أن الموسيقى العربية بلغت شأنا عظيما عندما امتدت الإمبراطورية الإسلامية من المحيط

إلى الخليج، ثم امتدت شمالا إلى أواسط أوروبا وجنوبا إلى الهند. ولا شك إنها أثرت تأثيرا مباشرا و ملموسا على

موسيقى هذه الرقعة الشاسعة من العالم.

حتى أن النهضة الموسيقية الغربية التي ظهرت منذ القرن السادس عشر في أوروبا بدأت خطواتها الأولى باعتمادها

تماما على ما وصل إليه العرب من تقدم في المجالين النظري والعلمي في موسيقاهم.

 

 

1- اابن عبد ربه - العقد الفريد 2- Muir W. The life of Mohammed from the original source - A new edition by T. H Weir , Edinbourg 1923 
3 - يوسف زكريا - مؤلفات الكندي الموسيقية - مطبعة شفيق- بغداد 1962